القائمة إغلاق

إسرائيل بلا استراتيجية: اللعب في حدود الجنون


عبدالجواد عمر – سبايسي نيوز|

لا يمكن لنا تحديد بدقّة ذلك اليوم الذي دخلت فيه دولة الاحتلال مرحلة جديدة في حياتها وتاريخها العسكري، أي تلك اللحظة التي ذهبت فيها من حالة الهجوم والتوسع إلى عقيدة دفاعية ترمي بالأساس إلى ردع خصومها وأعدائها. هل كانت عندما بدأ انسحابها التدريجي من لبنان، أم في خروجها من مدن الضفة بعد الانتفاضة الأولى، أم عندما وجدت نفسها محاطة بمقاومة شرسة في لبنان لتنسحب انسحاباً شبه كامل في عام 2000، أم عندما أخلت مستوطنات قطاع غزة ورحلت، تاركة وراءها نواة عسكرية ستتحول إلى جيش شبه نظامي حوّل بداية العمل العسكري التكتيكي، والذي يشارف على العفوية، إلى مناورة هجومية أسقطت الخط الدفاعي والفرقة الجنوبية في دولة الاحتلال؟

رغم أن المعارك الأولى التي أدّت إلى نشأة الدولة وتوغّلها وتوسّعها كانت ضارية، إلا أنها كانت تعبّر عن روح هجومية تنفّذها باستخدام جميع وسائل الحرب، بما في ذلك جيشها البري. تخرج إلى الحرب بروح إبداعية وقدرات استخبارية وقدرة على التضحية، بل في عقيدة تقول إن المعركة عليها دائماً أن تُخاض على أرض الخصم. بالطبع، لم تكن تلك الروح ذاتية كلياً، بل اعتمدت في كل مراحلها على شبكة علاقات دولية ساهمت في بنائها وتعزيزها في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. حيث استفادت من الغطاء الدبلوماسي، والامتيازات الاقتصادية، والقدرات العسكرية التي وفّرتها المملكة المتحدة، والولايات والمتحدة وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول.

ومع ذلك، هناك لحظة بدأ فيها كل هذا بالتلاشي والتراجع، وبدأت دولة الاحتلال تفكر بشكل دفاعي باستخدام تكنولوجيا حديثة تجمع بين قدرات السايبر والذكاء الاصطناعي، إلى جانب بناء جدران فوق الأرض وتحت الأرض واستخدام أجهزة الإنذار والتجسس والأتمتة. وقد ساهمت هذه العقلية في تشييد صورة المستعمر الذي لا يمكن تجاوزه، القادر على التصدي للتحديات، واكتفت بالحروب التي تبقيها على مسافة آمنة من خطر المعارك وضبابها.

«طوفان الأقصى»: مناورة هجومية ومفصل في صراعنا
ساهم ماو تسي تونغ في صياغة مخطوطات متنوّعة تتناول مسائل التكتيك والعمليات الإستراتيجية. بالإضافة إلى ذلك، كان ماو قارئاً متعطشاً للعديد من القراءات الفلسفية والعملية حول الحرب. تحدّث عن ضرورة خوض معارك حاسمة في أوقات محددة، وأن هذه المعارك الهجومية تهدف بشكل أساسي إلى إضعاف إرادة الخصم وتوسيع رقعة المشاركة والوعي بإمكانات المقاومة وقدراتها. بمعنى آخر، أشار إلى أهمية أن تقوم قوات الثورة بالانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، تليها مرحلة الاستقلال.

واحد من الأمثلة التاريخية الهامة لهذا النوع من العمليات الهجومية كان في هجوم تيت في حرب فيتنام حيث هاجمت قوات جبهة التحرير الفيتنامية أكثر من 90 قاعدة وموقعاً للجيش الأميركي وجيش فيتنام الجنوبي.

رمى جياب، الجنرال الفيتنامي، أكثر من 80 ألف مقاتل في مناورة تيت الهجومية، وبالمعنى التكتيكي لم تنجح المعركة في تحقيق كل ما هو مراد منها، بل خسر عشرات الآلاف من قواته في هذه العملية الهجومية، ولكنها تُعتبر اليوم في جميع الأدبيات المرتبطة بحرب فيتنام مفصلاً أساسياً في هزيمة الولايات المتحدة الأميركية وانهيار دولة فيتنام الجنوبية.

لهذا السبب، تشكّل القدرة على القيام بالمناورات أمراً حيوياً، خاصة في ظروف غزة الجغرافية وضمن حصار محيط يحرمها من القدرة على العمل الحر نسبياً، ويمنعها من الوصول إلى وسائل قتالية وإمكانات تدريبية. وتجد نفسها أمام جيش ومخابرات ودولة تُعتَبَر رائدة في تطوير التكنولوجيا العسكرية العالمية. هذا الصراع ليس هزيمة فقط لدولة الاحتلال وداعميها على المستوى الأيدولوجي أو السياسي، بل أيضاً هزيمة لمفهوم الحرب الغربي، خاصة لدولة «أوروبية» تقاتل على أرضها.

وقد تعاظمت الإرادة لتصميم وخوض هذه المعركة الهجومية (طوفان الأقصى)، كما حدّثنا المتحدّث باسم «كتائب عز الدين قسام»، في عام 2022، تحديداً لأن جيش الاحتلال في جولاته الأخيرة في قطاع غزة كان يرفض اقتحام الجيش البري وخوض معارك صفرية مع المقاومة.

بمعنى أن دولة الاحتلال اعتقدت أنها قادرة على خوض حروب «ردعية» من الجو، تجمع بين الاستخبارات الدقيقة والقوة النيرانية دون إقحام الخاصرة الرخوة لجيشها، أي القوات البرية. وبالفعل، كانت عملية «المترو» علامة فارقة كشكل عملياتي إسرائيلي يُراد تطويره يجمع بين القدرة على تدمير الأنفاق واستغلال الاستخبارات والخداع لقتل أكثر من ألف مقاتل فلسطيني. وقد فشلت الخطة لأسباب مختلفة بما في ذلك انكشاف الخداع من قبل استخبارات المقاومة، وتقديرها أن الاحتلال لا يرغب بدخول معركة برية حقيقية (على الهامش هنا دعونا نلقِ الضوء على دور وسائل الإعلام الغربية حينها في تسريب خبر العملية البرية، ودورها اليوم في التحريض المفتوح على قتل الأهالي في غزة من خلال ممارسة الكذب العلني على الملأ)، بل كان دخول أفيف كوخافي قيادة الجيش، وتولي خليفته وصديقه القريب هرتسي هليفي، علامة على هذا التحوّل، أي خلق جيش فعّال وقاتل، وقادر على الجمع بين الأسلحة المختلفة على جميع المستويات، بل قادر أيضاً على خوض حروب تبقي على ميزان الردع دون الاستثمار الجاد في أبعاد الحرب البرية. ورغم كثرة الدراسات التي كانت تتحدّث عن البرّ وأهميته، إلا أن مفاهيم الإستراتيجية الإسرائيلية لإمكانية العمليات البرية كانت تدور حول كيفية الدخول برياً والحفاظ على تفوّق عددي، وتقني، أي دخول بري غير مكلف.

هناك أمران علينا الانتباه لهما: أولاً، غياب الخطاب الصهيوني عن الاهتمام بحل الصراع سياسياً، أي محاولة الوصول إلى حل يحقّق أي نوع من أنواع العدالة والسلام في فلسطين، رغم أن المقالات والأحاديث في مراكز صنع القرار الغربية تشير، ولو بشكل خجول، إلى أن هذا هو الحل الوحيد.

وثانياً، أن دولة الاحتلال تعتمد فقط على الحلول العسكرية والأمنية كإجابة لكل تحدّ ومعضلة. ولهذا لم تكن «طوفان الأقصى» عملية عادية، فهي ضربت عصباً مهماً في شكل القوة الإسرائيلية، وخلقت ما يكفي من الخوف وانعدام الثقة بحيث اضطرت الولايات المتحدة أن تأتي بعتادها وعسكرها في محاولة لتصعيد معادلة الردع مع الجبهات الأخرى، وفي ظل حاجة إسرائيلية إل قوات دعم جوي في حال تمّ ضرب مطاراتها، وكمظلة غطاء للصواريخ الباليستية، فبايدن قرّر أيضاً أن يذكّرنا بأن دولة الاحتلال تمتلك «سلاحاً سرّياً» نووياً.

«دولة» بلا إستراتيجية

بعد هجوم تيت، تصاعدت الحملات الجوية الأميركية على شمال فيتنام وغيرها من دول المنطقة، وألقت الولايات المتحدة أكثر من 7.5 ملايين من المتفجرات في محاولة لإضعاف إرادة القتال الفيتنامي.

هذه المناورة الهجوية لجبهة التحرير الفيتنامية كانت لها تأثيرات وآثار واسعة، بشكل خاص على السكان المدنيين والبنية التحتية، بل أدّت أيضاً إلى خروج كثير من الفيتناميين من مناطق التماس إلى مناطق أخرى، أي إنها تضمّنت أيضاً تهجيراً للعديد من أهالي القرى والريف الفيتنامي. فالضربات الجوية الأميركية والحملات المتلاحقة فشلت في «إضعاف» إرادة القتال، ومع استمرار العمل العسكري في الجنوب والشمال، استطاعت فيتنام دحر أقوى قوة عالمية وتوحيد البلاد.

لا نريد المبالغة في المجاز التاريخي الفيتنامي وإسقاطه على غزة. ما هو مهم هو أن هجوم تيت شكّل نقطة تحوّل في وعي الأميركيين بأن الحرب خاسرة، ولهذا ما زالت المناورة الهجومية الفيتنامية تُعتَبَر مفصلاً أساسياً في انتهاء الوجود الأميركي في فيتنام. وضمن هذا السياق، حقّقت المقاومة في غزة في مناورتها الهجومية تجربة تدميرية للذات ومفاهيمها الناظمة في العشرين عاماً الماضية، وهي تنعكس على مستويات عدة:

أولاً، الخيار الخطابي الذي اعتمد على محاولة «دعشنة» حركة «حماس» وقطعها عن محيط العالم العربي دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً، وتوحيد الجبهة الداخلية من خلال تصوير ما حدث في غلاف غزة على أنه مجزرة، بحيث وصل في الماكينة تصوير مقتل الجنود على أنه «مجزرة»، والعمل على بناء غطاء سياسي عالمي للمجازر التي تُرتكب في قطاع غزة.

وثانياً، التخبّط في تحديد أهدافها الإستراتيجية، معلنة أن الجنون كحالة معلّقة تفتح لها إمكانية مختلفة هو الخط الناظم لشكل رد فعل القائم. فقد تحدّث رئيس وزرائها عن تغيير الشرق الأوسط، وإطلاق سراح القدرات النارية التي تمتلكها، وخلق أجواء تعزز من إمكانية تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء كتمهيد لضربات جوية ونارية أضخم ولخوض حملة برية واسعة النطاق.

في أوقات الحرب إجمالاً تكمن أهمية الإستراتيجية في القدرة على بناء تناغم بين القدرات والوسائل المتاحة وبين الأهداف السياسية المرجوّة. بمعنى أنه يكمن أهم قرار تأخذه أي جهة سياسية في القدرة على الوصل بين أهدافها ووسائلها.

ومن هنا تفتقر دولة الاحتلال إلى هدف استراتيجي واقعي، فهي وضعت أهدافاً صعبة التحقيق، بل أهدافاً تمهّد لانكسار أوسع إن بقيت تغنّي في لحنها.

وهنا يكمن انتصار ثالث للمقاومة (الأوّل، أنها اخترقت الجدران وأظهرت هشاشة الجيش الإسرائيلي واستخباراته، والثاني، أنها أسقطت الفرقة العسكرية المكلفة بحماية قطاع غزة)، أنها خلقت حالة تخبّط عسكري وسياسي عند العدو؛ يبحث عن الانتقام، ويعلي من شبح التطهير العرقي والمجازر، ويتردّد في أخذ قرارات حاسمة مهما بدا أنه حسم أمره. فالجميع يسأل ما الذي تريد دولة الاحتلال تحقيقه؟
إنّ رفع سقف عالٍ في بداية حملة عسكرية يمكن أن يكون إستراتيجية ناجعة في المدى القصير، فهو يعطي مرونة في التفاوض مع الأصدقاء قبل الأعداء؛ في لحظة تحتاج فيها إلى الأصدقاء لإرسال سفنهم وطائراتهم وحاملات الجند وتحتاج إلى غطائهم الدبلوماسي وحمايتهم العسكرية، فأنت أيضاً تفكّر في الأثمان التي ستدفعها مقابل كل ذلك. هذا التعويل سيولّد تأثيراً أكبر للولايات المتحدة وأوروبا على السياسة الداخلية الإسرائيلية، ولكن أيضاً على علاقة دولة الاحتلال مع الفلسطينيين ودورها في المنطقة عقب سنين من توتر العلاقات وتباعدها.
ولكن لا يمكن تجاوز أن خطاب الإبادة والتطهير هو خطاب أصيل في التجربة الصهيونية في بلادنا، وأنه يأتي في لحظة تعرّى فيه هذا الجيش أمام المطبّعين معه، وأمام أصدقائه، وأمام أعدائه أيضاً. فرفع السقف بالخطاب التدميري يساهم في «تنزيل» مستوى التنازلات أمام الحلفاء، ويساهم أيضاً في محاولة خلق حالة ذعر في قطاع غزة. فهناك مخطط لتفريغ السكان من قطاع غزة لمنح القوات الإسرائيلية إمكانية استخدام أسلحة تدميرية عالية، وتوظيف أسلوب الحرب المحروقة في دخولها البري، إن استطاعت في النهاية الدخول.
ولكن ما هو الهدف من الدخول إلى غزة؟ حتى إذا تمكّنت الحملة من إنهاء المقاومة من دون تدخّل الجبهة الشمالية، فإنّ ذلك قد يفتح الباب أمام إستراتيجية عسكرية تستمر بشكل متصاعد من قلب غزة على مستوى حرب منخفضة الوتيرة – ومن هي القوات العربية أو الفلسطينية التي ستدخل للضبط؟ بالفعل، مجتمع غزة مجتمع عسكري، ويمتلك الكثير من الخبرات العسكرية، خبرات يحملها معه داخل القطاع وكذلك خبرات سيحملها معه خارجها.
أمّا الأمر الثاني، فهو أن دخول قطاع غزة أقرب إلى رهان معلّق بالهواء، قد يخلق انكساراً أكبر وأعظم، وبالفعل يغيّر الشرق الأوسط كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ بمعنى أنه في حال تهاوي قواته وتلقّيها ضربات كثيفة وفقدانها القدرة على الحسم، وصمود المقاومة وما تمتلك من أسرى، لن يكون مخرجها سوى بالتفاوض ووقف إطلاق النار، وهي حالة قد تؤدي بها إلى تنازلات متعددة، ولكنّ الأهم إلى التظهير وبشكل واضح أنها، أولاً، لا تستطيع حماية مستوطنيها، وثانياً، لا تستطيع استرجاع أسراها، وثالثاً، أنها تفتقر إلى حل عسكري.
[١٧/‏١٠ ٨:٠٩ م] ..: لهذا، يجب عليك أن تمتلك إستراتيجية، حيث ترتبط الوسائل مرة أخرى بالأهداف، وتخلق من الأداة العسكرية وسيلة لفرض واقع سياسي. اليوم دولة الاحتلال تستخدم آليات الانتقام، ولكن بدون إستراتيجية، مع وجود حالة تضع نفسها فيها أمام فتح العديد من المشكلات الأعمق. إنها تتلاعب في حدود الجنون، ولكنها أيضاً حذرة ومتردّدة، حيث ترغب بتدمير غزة من دون دخول جبهات أخرى، وتريد لمصر أن تخلق الظروف لبناء وجود فلسطيني في سيناء، وتسعى أيضاً إلى إثبات كفاءتها العسكرية في الحروب البرية. وتحلم في واقع تختفي فيه غزة في قطاع جهّز نفسه جيداً أساساً لحرب دفاعية لا حرب هجومية.
مهما حصل، ستكون المناورة الهجومية مفصلاً في تاريخنا، ومفصلاً على طريق إنجاز لا يقلّ تأثيراً عن هجوم تيت الفيتنامي.

* باحث فلسطيني