القائمة إغلاق

الجبهة اللبنانية: استدراج نحو الكمين؟

هادي قبيسي – سبايسي نيوز|

انتقل نتنياهو من خطاب الأهداف المتواضعة بعد خمس ساعات من العملية (تطهير المستوطنات، تدفيع «حماس» الثمن، منع جهات أخرى من التدخل) إلى خطاب الحسم والقضاء على «حماس»، مواكباً الخطاب الأميركي الذي رفع السقف، ابتداءً من عصر يوم الثامن من أكتوبر، إلى الحد الأقصى، مدركاً لحجم المخاطر التي تهدد وجود الكيان المؤقّت وبالتالي مصالحه الإقليمية.

انتظر نتنياهو أربعة أيام كاملة بعد العملية ليغيّر من خطابه ويلتزم بالتوجيه الأميركي بالقضاء على مصدر التهديد في غزة.

لم يكن بمقدور نتنياهو، الفاقد للإجماع قبل سقوط غلاف غزة، والفاقد للثقة بعد الصفعة التاريخية، اتخاذ قرار التورط في حرب ممتدّة وكثيرة المخاطر، وهو العارف بمحدودية قدرة جيشه على «الحسم» الذي يطالبه به الأميركي من داخل غرفة قراره الأمني في الكرياه. بذا ورّطت أميركا جيش الاحتلال في أهداف ضرورية بالنسبة إليها، لكنها صعبة التحقق في منظار قيادة الكيان، إنه سيناريو تموز 2006 نفسه، لكن على بقعة إقليمية.

موقعية غزة

يشكّل القطاع ضمن محور المقاومة حالة خاصة باعتباره الجبهة المفتوحة المتحرّرة من الحسابات والتي تملك مبرّرات ودوافع شعبية للتحرك شبه الدائم، والجبهة التي تشكّل رديفاً لجبهة الضفة شبه المحتلة عند الضرورة، رغم أن غزة لا تملك التكافؤ الناري العملاني مع عدوها، إلا أنها تملك المبادرة، وأثبتت تأثيرها في «سيف القدس» 2021.

تتعرّض الآن غزة لحرب وجودية، قد تستمر وتتواصل ويمكن أن تتعطّل، تبعاً لطريقة عمل حلفائها في المحور؛ الحلفاء الذين عملوا دوماً ضمن توزيع الأدوار بين الجبهات، ولم يدخلوا في مواجهة جماعية إلا في حال التهديد الوجودي لأحد أطراف المحور (الحالة السورية)، هم الآن بصدد مزامنة الإجراءات والتنسيق ومراقبة المؤشرات التي تفرض التدخل المباشر وبناءً عليها تحديد التوقيت الأكثر تحقيقاً للأهداف، رغم أن التدخل غير المباشر قائم يومياً ويتوسّع ضمن بقعة المواجهة الإقليمية.

الحماية الأميركية

بالتوازي مع دفع الإدارة الأميركية نحو الحسم، قامت بتوفير الحماية اللازمة، عبر مظلة ردع خطابية من خلال التحذير المتكرر لحزب الله من التدخل في المواجهة، وعسكرية من خلال حاملات الطائرات التي أرسلتها إلى شرق المتوسط، وتم إيقافها قريباً من قبرص خارج نطاق صواريخ الياخونت بكيلومترات عدة.

التحذير المتكرر من المسؤولين الأميركيين (بايدن، بلينكن وأوستن) من تدخّل قوى المحور والذي بدأه بايدن شخصياً منذ الاتصال الأول بنتنياهو في السابع من أكتوبر، وأتبعه بلينكن في اليوم التالي بإشارة واضحة إلى حزب الله، لم يؤثر على بدء العمليات منذ الثامن من أكتوبر في مزارع شبعا، وواكبه الحزب بتكرار للعمليات وتوسيع لنطاقها ونوعها وطريقتها وكثافتها مع الوقت. ومع مجيء بايدن إلى الكابينت في اليوم الثاني عشر للحرب، كان قد أصبح واضحاً أن الردع الأميركي قد تبدّد، فاضطر بايدن إلى سحب الضمانات والقول بأن أميركا لن تتدخل في حال انضم حزب الله إلى الصراع.

اقتراب بايدن من التحدّي الانتخابي، وعدم وجود مؤشرات كافية لنية حزب الله التدخل بشكل جبهوي باتجاه الجليل، وتذمّر النخبة الصهيونية من ظهور الكيان بمظهر الضعيف والمحتاج إلى دعم أميركي في مواجهة حزب الله، كلها عناصر ساهمت في سحب الالتزام الأميركي.
عملية الاستدراج
تغيّرت قواعد الاشتباك بالاستفادة من التأكيد الأميركي على عدم وجود نية بالتورط العسكري ولا بالاستفزاز، وتأكيد التركيز الإسرائيلي على جبهة غزة وعدم وجود سيناريو أو هوامش للتحرك شمالاً.

يؤدي هذا التغيير في القواعد وظيفة إشغال نصف جيش الاحتلال في المنطقة الشمالية وتعقيد عمليات اتخاذ القرار في جبهة غزة، لكن ثمة وظيفة قد لا تكون مقصودة، وهي استدراج الكيان إلى خوض مواجهة على جبهتين.
التصعيد الهادئ ضمن الرد المتبادل المتكافئ على جانبَي الحدود، مع استهداف ممنهج وتدريجي لمنظومة الاستشعار والإنذار بما يشير إلى تحضير لتحريك قوات نحو الجليل، مجموعات كوماندوس أو ألوية «الرضوان»، والاستنزاف البطيء لتشكيلة دبابات الميركافا بمعدل دبابة يومياً، وتفكيك الاستعداد النفسي لقوات الاحتياط العديمة التجربة والخبرة في القتال المباشر… تشكّل مساراً تراكمياً ينضج مناخ الاستدراج إلى مواجهة قد يضطر إليها الكيان في ظل انكشاف الهشاشة الأمنية بعد «طوفان الأقصى»، وحاجته إلى خوض التحدي بهدف ترميم الردع، وبهدف إقناع مستوطني الشمال بأن ما حصل في غلاف غزة لن يحصل في الجليل قريباً.

الدخول في حرب على جبهتين سيكون فرصة مؤاتية لتشتيت جهود جيش الاحتلال، خصوصاً في وضعيته الحالية.

وضعية الجيش

يتحرّك الجيش والقيادة الأمنية للكيان تحت تأثير الصدمة، ويعبّر تامير هايمان، مسؤول شعبة «أمان» سابقاً ومدير مركز دراسات الأمن القومي حالياً، عن الصدمة بعد يوم واحد على اقتحام الغلاف بالقول: «لقد انهارت الافتراضات الأساسية، وهذا الواقع يتطلّب التفكير النقدي في المفاهيم التي رسّخت منذ فترة طويلة ثقتنا الشخصية والوطنية».

بجانب التأثير العميق لهذه الصدمة، تنتشر قوات الاحتياط القليلة الخبرة في الجليل، فيما يتم تكريس كل ألوية القوات الخاصة والفرق النظامية للجبهة الجنوبية، ومع تقدّم المواجهة في غزة يُسْتَنزَف مخزون صواريخ القبة الحديدية، وسيجلب الهجوم البري في غزة معه أزمات أمنية وسياسية مضاعفة.

هذا التراكم سيشجع على تسخين متزايد في جبهة الحدود اللبنانية الفلسطينية وينمّي مناخ الاستدراج مع الوقت، كما سيكون التورط البري في غزة عنصراً إضافياً للحساسية الأمنية والقلق على الردع وأمن مستوطني الجليل، بما يزيد من الحاجة إلى خيار المغامرة في الشمال.

الخيار الجوي

ثمّة تردّد كبير ونقاشات في كل مكان في الكيان حول جدوى ومخاطر العملية البرية مع إجماع على ضرورتها. طرح البعض استمرار القصف الجوي لوقت طويل حتى إحداث تغيير عمراني وسكاني ومعنوي لدى أهل غزة ودفعهم للتخلي عن المقاومين، وتأجيل الدخول حتى لحظة تفكّك الموقف النفسي داخل القطاع.

سيتزامن ذلك مع مسار التصعيد من لبنان، يصاحبه انخراط إقليمي، بدأ بعد زيارة بايدن للكيان، تشارك فيه قوى من محور المقاومة ويستهدف القوات الأميركية في البر والبحر، في لحظة إجماع الشعوب على اختلاف اتجاهات على مسؤولية الأميركي عن الجريمة في غزة وضرورة تدفيعه الثمن، فنسمع الأصوات نفسها في إدلب ودمشق، في صنعاء وعدن، في النجف والأنبار، وفي عيتا الشعب وعكار.

البقعة الإقليمية

مسار الضغط على الأميركي يؤثّر على المصالح الأميركية المباشرة، كما يؤثّر على أمن الكيان كذلك، فنقاط تموضع القواعد الأميركية مرتبطة في أماكن عدة بتوفير الحماية للكيان المؤقت. تحوّل مسار الضغط على هذه القواعد إلى مستوى تهديد وجودها، مع فقدان الأميركي لفعّالية توظيف الانقسامات المحلية وعدم اندفاعه نحو تسييل القوة بما يؤدي إلى التورط، سيدفعه إلى إعادة النظر في قرار الحسم في غزة.

بموازاة ذلك سيكون خيار فتح الجبهة شمالاً مع التخلي عن الخيار البري جنوباً أو تأجيله لوقت طويل، فرصة أقل جدوى، بالنسبة إلى المقاومة، بالمقارنة مع حالة فتح جبهتين تستهلكان القوات البرية في وقت واحد. لكن الذي خاف الدخول إلى غزة، كيف سيجرؤ على دخول لبنان؟ مضافاً إلى أن نقل القوات النظامية والقوات الخاصة من الجنوب إلى الشمال سيُفقِد جيش الاحتلال قدرة المباغتة، ويوفر فرصة للطرف الآخر.