القائمة إغلاق

هل نحن أمام نظام عالمي جديد؟ اسامة جميل

قراءة جغرافيا سياسية تاريخية، حول صعود وسقوط القوى العظمى عبر التاريخ.

اسامة عبدالرحمن جميل

يتفق معظم المؤرخين التاريخيين اننا نعيش مرحلة ولادة نظام عالمي جديد، بينما يؤكد آخرون ان الهيمنة الغربية على العالم بدأت بالاضمحلال لصالح عالم بوصلته تتجه شرقا هذه المرة، فما السبب الذي أدى لهذا الاستقراء، وهل هو صحيح بالضرورة؟

حسنا, فلنعد قليلا إلى الوراء ونلقي نظرة على الخارطة، العالم القديم الممثل بالقارات الثلاث آسيا وأفريقيا واوروبا أو كما يسميه ماكيندر القارة العالمية كان دائما ما تؤثر على احداثه المنطقة الوسطى فيه او ما يسميه الامريكان الان بالشرق الأوسط، حيث يقع في الشرق بالنسبة لأمريكا ولكنه ليس في أقصى الشرق.

بناء على موقعها كقوة مهيمنة ومركزية في العالم، أعادت أمريكا تسمية أقاليمه، لكن الحال لم يكن هكذا في الماضي الذي هيمنت فيه منطقة “الشرق الأوسط ” على الحضارة وصنعت الجزء الأكبر من التاريخ البشري.

بداء التاريخ الموثق بحضارة سومر العراقية ثم مصر الفرعونية -قطبا التاريخ الاكثر قدما- ثم لعبت فارس الدور الأكثر أهمية في تشكيل العالم من القرن السادس قبل الميلاد ابتداء بفتوحات قورش العظيم ومرورا بالطريق التجاري الاول العابر للقارات لحفيده قمبيز الثالث الذي ربط فارس القديمة بمجموعة من الطرق التجارية التي تصلها بالأناضول ومصر والشام وسباء والهند والصين .

لفترة طويلة ازدهرت التجارة وارتفع معدل التبادل التجاري والثقافي والبشري بشكل لم يكن له مثيل، ولأن الشدة هي من تصنع الملوك الفاتحين فإن الرخاء الطويل كان دائما هو سبب أفول الامبراطوريات، أنهى الإسكندر الاكبر في القرن الثالث قبل الميلاد قرون من عالم تخيط تفاصيله فارس، مستخدما الطريق الملكي الذي كان جوهرة إبداعات الحضارة الفارسية، حيث يؤدي من العاصمة القديمة سيرسا إلى العالم وإليها.

عندما بداء الإسكندر الذي أنهى احتلال معظم خريطة العالم القديم قبل وصوله لعمر ال ٣٠ سنة، بالاتجاه خارج الطريق الملكي الفارسي تاه، وانتهى به الأمر قتيلا في فوضى شبه القارة الهندية.

عاش العالم لقرون بعدها في حاله من الصراع بين روما الأوروبية وفارس الأسيوية وتركز الصراع حول مركز الطرق التجارية في الجزيرة العربية والشام، لكن ولأن التراكمات المعرفية حددت مركز المشكلة وهي الجسر الرابط بين الشرق والغرب فقد أصبح تحقيق تقدم مهم لأي طرف على الآخر في ذلك المركز أمر اشبه بالمستحيل، فبدأت حروب الالتفاف والوكالة التي كانت أبرزها الغزو الحبشي لحمير، كانت دائما تتعلق تلك الحروب بالبحث عن طريق جديد للهروب من لعنة الطرق القديمة التي تحكم السيطرة عليها فارس.

ساد الرخاء القطبين المتصارعين بسبب الاستقرار النسبي لهما في الهيمنة على العالم، حتى ظهر الدين الإسلامي في قلب شبه الجزيرة ببداية الدعوة للرسول محمد (ص)، كانت تلك الدعوة هي مشروع جديد وحد شعوب أكثر المناطق أهمية في هذا العالم.

لم يضم وقت طويل حتى بدأت الإمبراطوريات العالمية باقتحام الطرق التجارية الجديدة وافتتاحها الواحدة تلك الاخرى حتى انتهت من إعادة ربط العالم بطريق تجاري عالمي يمتد من الصين في أقصى الشرق حتى الأندلس في أقصى الغرب.

كانت الحضارة العباسية هي صاحبة أكثر مراحل الاستقرار والتطور والرخاء في فترة هي الأطول في التاريخ البشري حتى ذلك الوقت، سواء في مساحة الإمبراطورية والطرق التجارية او الزمن كذلك، بالرغم من ما شابها من الصراعات واقتتال داخلي والذي كان معظمه يأتي من أسباب طوباوية وفلسفية في أصولها.

رفاه ورخاء واسترخاء لقرون طويلة انتجت حالة شديدة من الضعف ثم بنفس الطريقة التي غزا فيها الإسكندر الاكبر العالم، أعاد الكرة جنكيز خان ولكن هذه المرة من الشرق، فبعد أن أسقط الصين لأول مرة في التاريخ سار في الطريق العباسي فاتحا الممالك والمدن الواحدة تلو الأخرى حتى أسقط عاصمة العالم القديم بغداد، ولكن بخلاف الإسكندر والاغريق لم يترك المغول حضارة ولم يسعوا إليها أيضا، ولكنهم خلفوا دمار وقتلا حذف الكثير من مكاسب الحضارة البشرية واعادها قرونا للوراء .

ورث العثمانيين العالم العباسي القديم واعادوا مركزته نحوا الأناضول باسطين سيطرتهم عليه شرقا وغربا ، ولكنهم كانوا مليئين بالمحاذير التاريخية التي لم تكن جيدة أو مفيدة بالنهاية ، حيث أغلق محمد الفاتح طرق التجارة البرية التي شكلت الحضارة لأكثر من ٢٠ قرنا حتى لحظة فتحه للقسطنطينية، ولأن العثمانيين حكموا مركز العالم القديم وجسره البري العالمي الذي يربط الشرق بالغرب فقد انتهى اتصال المنطقة العربية من شرقها لغربها بالعالم والحضارة بشكل شبه كلي وعزلت الأمة التي هيمنت على العالم لآخر ١٠ قرون من عمر تلك الحضارة، تخلفت وتقوقعت كثيرا حتى فقدت اتصالها بتاريخها بشكل لم يسبق له مثيل .

ولأن المنطقة التي عزلها العثمانيين واغلقوا طرقها كانت الطريق الوحيد للتبادلات التجارية بين الشرق والغرب، بداء الاوروبيين رحلة البحث عن الطرق البديلة ، وبعد أقل من أربعة عقود من فتح القسطنطينية سقط أخر الحكام العرب على شبه القارة الإيبيرية في أقصى الشرق الأوروبي، وقامت المملكتين الاسبانية والبرتغالية في نفس المنطقة التي انتهت فيها حضارة الأندلس العربية، وبعد أقل من عقد-أي في عام 1488-كان البرتغاليين قد اكتشفوا رأس الرجاء الصالح وفتحوا طرق تجارية بحرية جديدة نحو الشرق ، فيما أسفر بحث الاسبان عن طريق غربي نحو الهند عن اكتشافهم القارتين الأمريكيتين.

اقتسم البرتغاليين والاسبان العالم باتفاقية “جزر الملكة” الشهيرة حيث حُدد كل ما يقع في شرق شبه الجزيرة الإيبيرية من الكوكب للبرتغال بينما ما يقع بالغرب فقد ذهب لأسبانيا.

هيمنتا الإمبراطوريتين الجديدتين على العالم وراكمتا ثروات لم يشهد لها مثيلا في التاريخ، وبدأت شركات الهند الشرقية الهولندية والفرنسية والبريطانية رحلة التجارة والثروة شرقا وبدأت القوى البحرية الغربية الهيمنة الكبرى على العالم المستمرة حتى اللحظة.

لنفس الأسباب المتمثلة بالشدة والمكان والزمان المثاليين، انتهت الهيمنة الاسبانية والبرتغالية، وغزت بريطانيا العالم مستدله بالطرق التجارية الجديدة التي أسسها الاسبان والبرتغال، كانت الطرق واضحة وسلسة واختيار المواقع الأكثر مثالية للسيطرة على تلك الطرق أسهل من أي وقت مضى، حيث لم يحتاج البريطانيين لغزو دول بأكملها بل اكتفوا باقتناص المدن ذات الموقع المهيمن على الطرق البحرية الجديدة والأكثر أهمية.

في تلك الفترة، كان العثمانيين مستمرين بمحاولة اقتحام وسط وشرق أوروبا البري والموحش وانتهى بهم الامر بهزيمة (فيينا) القاسية في منتصف القرن الثامن عشر.

شعر الفرنسيين أن الطرق البحرية أصبحت مغلقة كثيرا أمامهم لصالح بريطانيا، وأن العثمانيين يقفوا بينهم وبين إعادة افتتاح الطرق التجارية البرية نحو الهند، قرر نابليون بونابرت بالانطلاق شرقا وأسقط الممالك الأوروبية الواحدة تلوا الأخرى واتجه جنوبا نحو مصر فاتحا، ولكن البريطانيين كانوا قد عززوا تحالفهم مع العثمانيين والفرس لمنع أي طموح أوروبي لمنافستهم بطرق جديدة، لم يجد نابليون أمامه طريقا اخر سوى المضي قدما باتجاه الشرق، نحو روسيا.

كانت روسيا امبراطورية حديثة التشكل حيث أسس الروس كييف كأول عاصمة تاريخية لشعوب السلاف والروس فايكنغ قبل أقل من أربعة قرون، ولكن تلك الإمبراطورية البرية العظمى كانت قد قطعت شوطا كبيرا بالتمدد نحو شبه القارة الهندية حيث تقبع الجائزة الكبرى.

بينما كان نابليون يتوغل في الداخل الروسي كانت شركة الهند الشرقية البريطانية تستكمل سيطرتها الكاملة على شبه القارة الهندية، موحدة شعوبها تحت حكما واحدا لأول مرة في التاريخ، وعندما اقترب نابليون من موسكو العاصمة الجديدة للإمبراطورية الروسية، بدأ الروس بعكس مسار المعركة والحقوا به الهزائم واستمروا بملاحقة فلول جيشه حتى اقتربوا من إسقاط فرنسا.

تراجع الروس بعد محاكمة وعزل نابليون من الفرنسيين، بعدما وسعوا نفوذهم كثيرا نحو الشرق الاوروبي وبدوا بمنازعة العثمانيين في البلقان وانتزعوا معظم مناطق فارس، واتجهوا نحو الهند حتى استقروا بالقرب من كابول عاصمة أفغانستان.

في ظل عالم متسارع وتكنولوجيا تستمر بالتقدم كان العثمانيين مستمرين بالتقلص مخلفين خلفهم أكثر الشعوب تخلفا وعزلة في العالم الجديد.

ظلت المنطقة الواقعة بين روسيا وفرنسا مسرحا لأحداث مهمة كادت أن تعيد تشكيل العالم لمرة جديدة، ولم يمر الكثير من الوقت حتى بداء بسمارك بتوحيد الممالك والامارات الألمانية ليدشن امبراطورية جديدة سيكون لها أثر كبير على شكل العالم في القرون القادمة.

عندما اقترب الروس كثيرا من الهند قررت الملكة فكتوريا بإنهاء شركة الهند الشرقية في منتصف القرن التاسع عشر وأعلنت الهند امبراطورية كاملة ونصبت نفسها على رأس تلك الإمبراطورية ثم دعت شعب الإمبراطورية الجديدة إلى محاربة التمدد الروسي، وظلت أفغانستان مركز الصراع الجديد بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية لعقود بعدها.

عندما تم اكتشاف النفط بكميات تجارية لأول مرة في فارس بعد اكتشافه بعقود في العالم الجديد في تكساس الامريكية، أدرك البريطانيين انهم أمام اكتشاف سيغير من شكل العالم، بما سيقدمه من سفن حربية أسرع وأخف وزنا تبحر بالنفط لا بالفحم، اكثر قدرة على المناورة وضرب القطع البحرية العملاقة والبطيئة للخصوم.

في نهاية القرن التاسع عشر كانت ألمانيا قد بدأت نهضة صناعية واقتصادية عملاقة ومجددا قررت الاتجاه شرقا, ولكنها هذه المرة تعلمت من اخطاء نابليون ولم ترغب بالذهاب نحو الفخ الروسي، فأعلن عن تحالف بين المانيا وبروسيا والامبراطورية العثمانية يهدف إنشاء طرق تشقها سكك القطارات سمي هذا المشروع (قطار برلين بغداد )، حيث اعتبروا الوصول إلى بغداد مربط الفرس، ووطدوا علاقات قوية مع الفرس ليكون الأمر سلسا لمد سكك القطار أكثر عبر فارس نحو الهند كانت الفكرة ان السياسة الناعمة ستجنب القوى الجديدة الاصطدام مع القوى البحرية العظمى بريطانيا وفرنسا.

مرة أخرى كانت الجزيرة العربية والشام والعراق مركز الاحداث وبؤرة الصراع وانتهى خليط مركب ومعقد من الصراع الاقتصادي والعسكري بنشوب الحرب العالمية الأولى التي حدث في عالما مكتظ بالأقطاب، تهيمن على طرقه التجارية بريطانيا وتتصارع الكثير من القوى على الطرق البديلة.

انتهت الحرب بهزيمة غير كاملة لألمانيا، ولكنها كانت مكتملة للعثمانيين، حيث سقطت أخر قلاع العالم القديم، واقتسم المنتصرين الغنائم، وكان العالم العربي هو الغنية والجائزة الكبرى، ولأن الحرب لم تكن مكتملة فسرعان ما بدأ الاستعداد لاستكمالها بجولة أخرى.

في الشق الأخر من العالم الجديد، ظلت أمريكا تراكم الثروة والبشر، صانعة عالم جديد كليا متعدد الاعراق مليء بالثروات مستقر وجذاب، والأهم من ذلك، لا يحمل خلفه أعباء التاريخ وأحمال العالم القديم.
في الشرق كانت اليابان تستعد لتتحول الى امبراطورية بحرية شرقية على غرار بريطانيا، فهي بحرية منعزلة عن العالم القديم تنظر لكل اختلالاته كفرص لتنقض عليها.

وعندما قرر الاوروبيين استكمال حربهم غير المكتملة، كانت أدوات وتقنيات الحرب والدمار قد تقدمت بسرعة ضوئية، أعادت المانيا الكرة النابليونية متجهة نحو الشرق، وهذه المرة كانت الوجهة روسيا لا مكان أخر.

روسيا سوفييتيه أممية حالمة وجدلية، سهلة الهضم أيضا، لكن لالتهامها يجب أحكام السيطرة على القارة الأوروبية من قلبها حتى أطرافها البحرية، هذا إذا لم يحيك الخبث البحري البريطاني خيوط المؤامرة التي ستنتهي بألمانيا محاصرة وجائعة وضعيفة مجددا.

اطمئن البريطانيين على سلامة جوهرتهم في المنطقة العربية من الصراع ولم يستعجلوا في خوض النزال في البر الأوروبي، وجاء تدخلهم متأخر وغير فعال، وعندما رأى الألمان الفرصة ساحة لمهاجمة روسيا، عول البريطانيين على التاريخ الذي سيعيد نفسه هذه المرة أيضا، وستلتهم روسيا الجيوش الغازية مهما كانت قوتها وعددها.

كان الأمريكيين أكثر مكرا من البريطانيين والجميع، هذه المرة، انتظروا تدمير قوى العالم القديم لنفسها بشكل ذاتي، وضمنوا الانتهاء من العالم المتعدد، ورسموا خريطة جديدة لعالم جديد تهيمن أمريكا البعيدة عن اعبائه ومشاكله، على بحاره الدافئة.

قررت اليابان، حليفة المانيا، توجيه ضربة- اعتقدت انها قاضية- على أمريكا، مستهدفة أكبر اساطيلها، لتعطي درسا لتلك القوى الصاعدة التي ترغب بالنئي عن نفسها أنها لن تكون معزولة عن أحداث يوم القيامة في العالم القديم عندما تأتي، وكانت تلك العملية اختبار حقيقي لسؤال مهم، هل فعلا يرغب الامريكان بالنئي عن أنفسهم؟
بالطبع لم تنجح أمريكا في الاستمرار بالنيء عن نفسها بعد الاستهداف، لكنها رمت بكل ثقلها عند التدخل في عالم انهكته الحرب، فخاضت أكبر حروبها وسخرت كل امكانياتها ليس فقط لهزيمة الخصوم، وإنما لتدمير العالم القديم وبناء عالم أخر جديد كليا.

لم يذهب الامريكان لمحاربة اليابان فحسب، وإنما وجهوا جيوشهم إلى شمال إفريقيا واوروبا وحولوا إيران الى أكبر جسر لوجستي عسكري في التاريخ لدعم الاتحاد السوفييتي.

في أعلى لحظات النشوة الألمانية، هزم الروس الجيش السادس لهتلر في معركة ستالين غراد، الجيش الذي وصفه قائده يوما، أنه جيشا إذا طلب منه فتح السماوات لفتحها!
بعدها لم تتوقف الهزائم الألمانية إلا في برلين، في مشهد ملحمي يتمثل بالجيش الأحمر محاصرا لقصر الفهرر، لينتحر هتلر وترفع الاعلام الشيوعية على قصر الرايخ الثالث.

لم يسمح الامريكان لقوى العالم القديم بالتنفس، ففي طريقهم نحو طرد النازية من أوروبا كانوا قد سحقوا المدينة تلو الاخرى وما ان سقطت برلين حتى وجهوا كل جهودهم لهزيمة اليابان، قاطعين الخط على السوفييت، إذا ما فكروا حشد جيوشهم باتجاه الشرق، فاستخدموا حينها مفاجئتهم الكبرى وضربوا اليابان بالقنابل النووية مرتين حتى أعلنت استسلامها.

اقتسم السوفييت والامريكان العالم حرفيا واتفقا القطبين الجديدين ان لا مكان لإمبراطوريات العالم القديم، سيُسخر بعدها السوفييت فائض سلاحهم المهول لدعم دول العالم القديم الفتية لطرد الامبرياليات الأوروبية وستساهم امريكا بالمال والدبلوماسية والإعلام أحيانا وبغض الطرف أحيانا أخرى.

كمحاولة أخيرة لاستعادة امجادهم، اتحد البريطانيين والفرنسيين في عام ١٩٥٦م، عن طريق التحالف مع إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، كان ذلك في الحقيقة الدرس الأخير الذي أثبت أن العصور الأوروبية الامبريالية قد انتهت، والعالم إما امريكي يهيمن على أرثهم جميعا او سوفييتي يخوض تجربة جديدة لم تعرف البشرية مثيلا لها من قبل!

لم تستمر التجربة السوفييتية كثيرا وسرعان ما انتهت هي الأخرى في عام ١٩٩٠م، وقد لعبت الصين الشيوعية بتحالفها مع امريكا دورا رئيسيا في انهاء تلك التجربة والمغامرة المثيرة.

دعمت امريكا كثيرا الصين لإحداث التحول الاقتصادي الجديد حيث تعمل وفقا لنظرية السوق الحر الاشتراكي الذي بموجبه تعمل الدولة الشيوعية جنبا الى جنب مع الاسواق الرأسمالية.

أخيرا، هيمنت أمريكا على العالم كقطب وحيد، وبدأت بتعميم نموذجها الاقتصادي والثقافي، ومراكمة أكبر قوة عسكرية عرفها العالم من قبل، جيش قادر على الانتشار في كل اصقاع الارض وخوض المعارك في اي مربع على الكرة الأرضية بقدرات لوجستية تقترب لمفهوم المعجزة.

هذه المرة كانت امريكا قد ورثت بالفعل الطرق التجارية القديمة والجديدة وكانت القوانين التجارية هي التي تحتاج إلى التعديل وبدأت امريكا بأكبر حملة نشر وترويج لفكرة العولمة ونظرية السوق الحر، وكانت الليبرالية الجديدة هي المنهج السياسي الداعم لتطبيقها على الأرض.

لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي توقعتها أمريكا لكنها كانت مدركة لدروس التاريخية التي تقول إن الرخاء يؤدي إلى الضعف وطمع الأعداء، لذلك دائما صنعت العدو الذي تحتاجه لتخلق الشدة وتحفز قوتها للاستعداد والمواجهة.

كانت الحرب على الارهاب نظرية بدأت تتشكل منذ منتصف التسعينات ولكن لم يتم تفعيلها الا في بداية الألفية، تحديدا في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، حيث هوجمت امريكا في مشهد تراجيدي يذكر بالهجوم الياباني قبل ٦٠ عام في بيرل هاربر. إذا، لقد هوجمت أمريكا مجددا ويجب الرد سريعا وفي كل مكان!

بينما تتقدم الصين اقتصاديا بشكل مذهل، كانت أمريكا تشجعها على الانضمام لاتفاقية التجارة العالمية في العام ١٩٩٨م، وتم ربطها بالأسواق الحرة والعولمة وفتحت الاسواق منها واليها، وعززت امريكا نظرية التعاضد الاقتصادي التي تستبعد في حال وصل التبادل التجاري بين دولتين الى ٢٥% من الناتج القومي، أن تٌقدم أي منهما على مهاجمة الأخرى، نتيجة للضرر المتماثل.

مع ذلك كان لأمريكا مخاوف من الصين التي تنتهي جميع الطريق القديمة فيها، بل اختير اسم طريق الحرير الذي يشير إلى فرادة الحرير كمنتج ورمز صيني، ليكون الطريق البري الرابط مستقبلا بين شرق وغرب العالم القديم.

ما يجعل الصين مقلقه بالنسبة للأمريكي، هو لكونها دولة كبيرة جدا من حيث المساحة والسكان وهي ايضا الدولة الوحيدة التي تمتلك سواحل بحرية عملاقة مفتوحة على المياه الدافئة ونفس الوقت حدود برية تربطها مع عدد كبير من الدول البرية في قلب طرق التجارة القديمة وتمتلك ايضا تعداد سكاني عملاق يكفي لتشكيل ثقافتين برية وبحرية مكتملتين.
ولأن امريكا يصعب منافستها في البحار فهي تعلم تماما انه لا حظوظ لها بالمنافسة في البر، لهذا استبقت ضرب أهم مراكز طريق الحرير التاريخية أفغانستان والعراق، معتقدة أنها ستصنع مراكز برية متقدمة او ستحقق أفضلية من نوع ما.

إيران وسوريا كانتا الدول المستهدفة تاليا فتحييد او احتلال هذه الدولتين، سيمكن امريكا من السيطرة النارية على الطرق التجارية البرية بشكل كامل.

استنزفت امريكا مواردها وقوتها كثيرا في حروب الارهاب دون تحقيق شيء سواء الكثير من الخسائر واهدار موارد هائلة وراكمت مديونيات لم تستطع سدادها، بينما استمرت الصين بالازدهار والنمو الاقتصادي الذي لا يمكن إيقافه حيث جميع النظريات الاقتصادية التي تنبئت بكبح النمو بين عامي ٢٠١٠م و٢٠١٥م لم تتحقق بسبب التغييرات العميقة التي اجراها الرئيس الصيني منذ العام 2012م.
وعندما بدأت امريكا تنتبه كثيرا للعملاق الصيني القادم، ناقلة مركز اهتمامها وثقلها العسكري نحو الشرق في العام ٢٠١١م، فتح ذلك الشهية للكثير من القوى الكبرى الاقليمية للحصول على مكانها في مناطق أخرى، لتملئ الفراغ الذي قد يتركه الأمريكي.

تقدمت روسيا أكثر نحو المنطقة الاورواسيوية والقوقاز وشرق أوروبا واعادت تأهيل جيشها ورفع قوتها الصناعية العسكرية كثيرا مع نسج علاقات عابرة للقارات في كل مكان مستغلة تركيز امريكا المتنامي نحو الشرق.

في العالم 2012م انُتخب الرئيس الصيني شيء جين بينغ من اللجنة المركزية كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني ورئيس جديد للصين, وكانت تلك بداية جديدة لدوروها العالمي، حيث أعاد الرئيس شي مركزت الكثير من السلطات الى منصبه قلص الحريات الفردية وامم الكثير من الشركات الكبرى ، اعلن استراتيجية واسعة لتطوير وتسليح ورفع ميزانية الجيش الصيني من حدود ٧٠ مليار دولار الى اكثر من ٤٠٠ مليار دولار في السنة حاليا، و حول العقيدة العسكرية الصينية من عقيدة دفاعية الى هجومية ,دشن إنتاج الكثير من الأسلحة الاستراتيجية الهجومية مثل حاملات الطائرات والسفن الحربية والغواصات وأنواع لا حصر لها من المقاتلات الجوية والدرونز ، متوجا الأمر بالإعلان عن مشروع الحزام والطريق (طريق الحرير الصيني الجديد) بعد اقل من سنة من توليه المنصب، مفاجئا العالم برصد ميزانية للمرحلة الأولى للمشروع، تتجاوز ٣ ترليون دولار .

عزز شيي علاقة الصين بأوروبا كثيرا وحول منطقة اورواسيا الى منطقة تعاون صيني روسي، بينما استثمر تريليونات الدولارات في قارة إفريقيا لوحدها، وسيطرت الصين حتى اللحظة على أكثر من ٤٠ ميناء استراتيجي عالمي حول العالم وعززت نفوذها كثيرا في امريكا اللاتينية بينما استمرت بغزو الاسواق الامريكية ورفع العجز في الميزان التجاري الامريكي الصيني لصالحها.

وسعت الصين أيضا قواعدها ونفوذها في بحر الصين الجنوبي وبدأت خطوات جادة لإعلان سيادتها الكاملة عليه من خلال نشرها لألاف السفن الحربية الجديدة و ثلاث حاملات طائرات حديثة جزء من برنامج يشمل 9 حاملات أخرى حتى العام 2030م، فيما ركزت امريكا كل جهودها في إثارة كل أنواع النازعات في تايوان بعد ان فشلت في إثارة المشاكل والحروب في الايغور وبنما والفلبين، بالإضافة إلى فشلها بتوتير العلاقات اكثر بين باكستان حليف الصين الاستراتيجي والهند القوة الاقتصادية القادمة.

كرر الاوروبيين كثيرا انهم سيعلنوا حيادهم في اي حرب باردة او ساخنة بين امريكا والصين، فأشعلت امريكا حرب ساخنة بين أوروبا وروسيا في اوكرانيا وذهبت لرفع مستوى الاستفزاز في تايوان الى أقصى درجاته.

كانت السابقة الجديدة ان امريكا فشلت هذه المرة بعزل روسيا كليا وتمردت الكثير من الدول على العقوبات التي فرضت على الروس، على غير عادة العقوبات السابقة.

بين روسيا والصين؟

في الحقيقة ولأسباب كثيرة، تخشى روسيا كثيرا من صين قوية عالميا كقطب ثاني أو وحيد فالدولتين يشتركان بنزاع حدودي كبير ومنافسة على موارد اورواسيا ، كما تخشى من طريق الحرير الصيني عند ارتباطه بإيران الذي سينهي حصار الطاقة الروسي على أوروبا بغير رجعه, بالإضافة إلى انه سيقلص حاجة الأوربيين كثيرا للطرق البحرية كخيار وحيد للتجارة، لهذا اتجهت روسيا مؤخرا لتعزيز فكرة المحور الاورواسيوي الهندي الذي يضم تحالف هندي ايراني روسي مع الدول الاستانية، بينما اتجهت أمريكا التي تشاطرها التخوف نفسه بزاوية أخرى، إلى تحالف عسكري يضم أستراليا وكندا وبريطانيا ضد الصين باسم (برايك).

لم تعد منطقة الناتو هي الأولوية الأكثر أهمية عسكريا لأمريكا، لذلك هي تستثمر أكثر في منطقة تحالف (برايك) العسكري في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.

هزم الفرس من الإسكندر بطريقهم الملكي، وهزم العرب والصينيين من المغول بطريقهم العباسي، وهٌزمت المانيا بطريق الرايخ، بينما حققت الصين مكانتها بطريق العولمة والسوق المفتوحة الذي اوصلها لكل مكان في العالم ولقلب امريكا نفسها، ولكنها بدأت بمشروع طريق الحرير والذي في شقه البري على الاقل قد يكون طريق الصين نحو اوروبا او سبب الحرب العالمية الثالثة التي قد لا تعرف منتصرا.

بينما تٌفرط امريكا باستنزاف الحلول واللجوء إلى اعلى درجات الاستفزاز العسكري للحصول على حرب في وقت يمكن كسبها ، مستنزفة الحلول العسكرية من خلال استخدام أدوات التيسير الكمي بشكل ليس له مثيل من قبل ، حيث طبعت من الدولار خلال سنتين ما يشبه طباعتها للدولار منذ انهاء الغطاء الذهبي في بداية السبعينات ، واستخدمت أيضا سياسة رفع الفائدة بطريقة غير مسبوقة على الاقل من الثمانينات، مع الاخذ بالحسبان ان الدين القومي الأمريكي يبلغ الان ٣٠ ترليون دولار، ما يعني أن خدمة الدين ستصبح النسبة الكبرى من ميزانية الحكومة الامريكية ، وفي نفس الوقت يحدث فيها اكبر انقسام سياسي واجتماعي منذ الحرب الاهلية في منتصف القرن الثامن عشر .

من سينتصر؟
لا يمكن لأحد أن يكون متأكد ابدا ولكن الصين أنجزت حتى الان اكثر من اي خصم أخر لأمريكا التي ما تزال هي الأخرى، تمتلك كل اسباب القوة وتحتاج الى الحرب فقط لحل كل مشاكلها.

انتهى .