القائمة إغلاق

إنجاز المقاومة: الهزيمة في الداخل والإقليم

ورد كاسوحة – سبايسي نيوز|


تسلسُل الأحداث منذ بداية عملية «طوفان الأقصى» يشير إلى أنّ هذه ليست مجرّد جولة في الصراع بين المقاومة الفلسطينية و«إسرائيل»، بل هي أشبه بمحصّلة للتراكم النوعي في قدرات المقاومة منذ بداية الصراع العسكري مع الاحتلال، عقب فكّ الارتباط مع قطاع غزّة ووصول حركة «حماس» إلى السلطة فيه.

المتغيّرات في هذه الحرب كثيرة، وهي لا تقتصِر على قدرات المقاومة، بل تتعدّاها، إلى شكل المواجهة نفسِها الذي اتخذت انعطافة كُبرى، مع انتقال زمام المبادرة في الصراع من الكيان الصهيوني إلى المقاومة الفلسطينية، بقيادة «حماس» ومعها «الجهاد الإسلامي».


تطوُّر البنية


الشكل أيضاً يتجاوز المبادرة بالهجوم إلى بنيته التي تعقّدت كثيراً وأخَذَت أبعاداً غير مسبوقة، مع تطوير نطاقه ومداه وأدواته، بحيث يتعدّى حرب الأنفاق، التي كانت الجولات السابقة تقتصر عليها، إلى الالتحام المباشر.

على أنّ ذلك، بدوره، انتقَلَ من الحيّز الخاصّ بالمقاتلين الأفراد، في ما كان يُعرف بـ«القتال من مسافة الصفر»، إلى الاشتباك المُركَّب الذي تدخُلُ فيه التجهيزات والمعدّات العسكرية، ولا سيّما المتوسّطة منها، من سيارات النقل الرباعي إلى الطائرات الشراعية المجهّزة برشاشات وصولاً إلى المُسيّرات.

والحال أن وظيفة هذه الأخيرة هي الأكثر تعقيداً، لأنها تجمع بين العمل العسكري المباشر والتحضير له، بصرياً، بحيث يكون الرصد المرئي عبر تقنية الديجيتال هو المدخل للاستهدافات التي تحصل لاحقاً، حين تُؤخذ كلّ أبعاد المواقع المُستهدَفة وتُرسَل إلى مراكز التحكّم والسيطرة عبر البثّ المباشر والتسجيل عبر تقنية الفيديو.

كلّ ذلك لم يكن مُتاحاً في الحروب السابقة، حيث كانت التكنولوجيا العالية التي تمّ تطويرها لتصبح بمتناول الجماعات غير الدولتية، بما في ذلك حركات المقاومة المسلّحة، لا تزال في بداياتها وتكاد تقتصر على تقنية أو اثنتين من دون حتى امتلاك القدرة على تضفيرها، لتصبح بمثابة ناظم لإيقاع المعارك وظهير أساسي لها.


تفوّق الأداء


هذا التطوّر المذهل في القدرات أتاح بسهولة، ليس فقط مباغتة القوّات الإسرائيلية، بل حصول الاختراق على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع الكيان، حتى حين كانت الجيوش العربية قادرة على المباغتة وامتلاك زمام المبادرة كما حصل في حرب تشرين عام 1973.

سرعة الإنجاز هنا، عبر توظيف التكنولوجيا العسكرية، ترافَقَت مع تحوُّلٍ في العزيمة العسكرية نفسِها، إذ لم يسبق لحركة مقاوَمة في تاريخ المنطقة أن استطاعت السيطرة على مراكز عسكرية وتحصينات مجهَّزة، بهذه السرعة، بحيث تظلّ قادرة على التحكّم والسيطرة حتى بعد انقضاء لحظة المباغَتة نفسِها.

دوام الاشتباك هنا، لساعات، إن لم نقل لأيّام، هو بمثابة مؤشِّر إلى أنّ الارتباط بين القدرة التكنولوجية العالية والإرادة القتالية لدى الأفراد المشتبكين بالقتال قد بلغ مدىً لم يعد ممكناً معه استخدام أدوات تقليدية في القياس، لأن التفوّق في الأداء هنا قد تجاوَزَ الممكن والمعقول في ظروف المنطقة وقواها، حتى بالمقارنة مع قوّة الجيوش وأدائها نفسِه.


حدود تلقُّف الإنجاز


لكن في السياق الجيوسياسي للمعركة، ثمّة ما قد يكبح هذه اللحظة ويمنع استدامتَها بالشكل الذي حصلت فيه، إذ إنّ الشروط اللازمة لديمومتها تحتاج إلى نضوج البيئة الإقليمية، بحيث يكون تلقُّف الإنجاز الذي حصل ليس فقط كاملاً، بل أيضاً غير مشروط.

اللحظة في الإقليم والعالم حالياً لا تسمح بذلك، على الرغم مما قد يبدو تراجُعاً للنفوذ الأميركي هنا بعد التورّط في دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.

التسويات التي سُمِح لها بالحصول، بموجب هذا الانكفاء، ليست جاهزة لتلقُّف لحظة راديكالية كهذه، فهي تقوم على فلسفة قوامُها التنمية والتراجع عن خيارات تغيير النُّظُم أو إسقاطها، بعدما تسبّب ذلك بانهيار المنطقة اقتصادياً في العشرية الأخيرة.

الأطراف التي حصلت بينها التسويات أو المصالحات ليست كلُّها في صفّ المقاومة، بل على العكس من ذلك، حيث الرهان في التسويات هو على إمكانية احتواء هذه الأخيرة لتصبح جزءاً من مسار تخفيف التوتّرات في الإقليم.

وهذا لا يعكِس بالضرورة مصلحةً للجميع، بخلاف ما يُشاع عن التسويات، لأنّ موازين القوى ليست متساوية بين هذه الأطراف، والتقاطعات في المصالح لن تذهب إلى حدّ ابتلاع استمرار الصراع مع «إسرائيل»، حتى بالوتيرة المنخفضة التي استقرّ عليها منذ فترة.

كلّ ذلك يجعل اللحظة غير مؤاتية لتلقّف ما حصل والبناء عليه على مستوى تحقيق اختراق جدّي في طبيعة الصراع مع «إسرائيل»، لجهة البُنى والأدوات والقوى نفسها، وبالتالي فليبقَ الأمر، في يد المقاومة ومن يدعمُها جدّياً وفعلياً.

وهذه جبهة لم تتّسع كثيراً، حتى مع كلّ المتغيّرات التي رافقت انخراط روسيا مباشرةً في الحرب السورية. الطبيعة الكتلوية هنا ليست عاملاً سلبياً بالضرورة، لأنّ اتساعَها لتشملَ أطرافاً آخرين لا يحملون التصوّر نفسه عن الإقليم والعالم سيحملها على تقديم تنازلات، لن تكون على المدى البعيد في مصلحة المقاومة الفلسطينية خلال اشتباكها المديد مع «إسرائيل».

مسارات الصراع الحالي

في ظلّ واقعٍ كهذا، فإنّ المعركة، حتى لو انتهت لمصلحة المقاومة، ستؤول إلى حصيلة غير نهائية على صعيد التوازنات والتسويات الإقليمية. أفضل السيناريوهات المتوقّعة، قبيل بدء الاجتياح البرّي الذي يخطِّط له «مجلس إدارة الحرب» الصهيوني، هو إغراق «إسرائيل» في مستنقع لا تعود قادرة على الخروج منه.

وهو أمر متوقّع، قياساً بالأداء الذي أظهرته المقاومة على الصعيد الهجومي في ميدان لا يقع في نطاق سيطرتها أو معرفتها حتى. الإمعان في كسر هيبة جيش الاحتلال، كما هو مأمول ومنتَظَر من الحرب البرّية في القطاع، سيفيد بتعقيد المسارات الإقليمية التي تحاول دمج «إسرائيل» في المشاريع الاقتصادية الكبرى المُعدّة للمنطقة.

حالياً، ليس ثمّة بحث جدّي في التسوية بين العرب والفلسطينيين وبين «إسرائيل»، حتى تفتَحَ الحرب، في حال انتصار المقاومة، أفقاً في هذا المسار، وما هو مطروح لا يتعدّى التفاوض على بقايا مشروع أوسلو، مع كلّ التوسّع الحاصل في الاستيطان في أراضي القدس والضفّة الغربية.

المسار الوحيد الذي كان قائماً قبل الحرب هو مسار التطبيع وتوسيع اتفاقيات «أبراهام» لتشمل السعودية، وهو ما أصبح متعذّراً، أقلّه في الأمد المنظور، بفضل المواجهة التي قادتها المقاومة.

هذا وحدَه، وبدون ربطه حتى بتوسيع جبهة داعميها، كافٍ لتثمير المواجهة أكثر، بحيث تقود، في حال استمرار تعقيد مسارات الانخراط الإقليمي مع «إسرائيل»، إلى حرمانِها من المنافع المستقبليّة كافّة لمشاريع التطبيع والإدماج الاقتصادي التي كان مخطّطاً لها، على نطاق واسع، قبل إتيان الحرب عليها كلّها.